المادة    
بعد أن قتل الجعد وقتل الجهم أيضاً، وجاء عصر المأمون وترجمت الكتب أنشأ المأمون دار الحكمة لترجمة علوم اليونان، وعلوم الأوائل، وجاء المترجمون، وكان بعض مترجمي الدار من الزنادقة المشهورين مثل عبد الله بن المقفع الأديب والكاتب المشهور المعروف وأمثاله.
فكانوا أيضاً ممن تشَّرب بتلك العقائد وآمن بها، فأخذوا يترجمون هذه الكتب ثُمَّ زينوا للمأمون أن يعتقد عقيدة خلق القُرْآن وقالوا له: إن لم تعتقد هذه العقيدة فإن النَّصارَى يفحموننا ويقولون: إننا نقول مثلهم بأن القدماء أو الآلهة متعددة، ونحن نقول إن الله وحده هو القديم.
  1. دور بطـانة السوء

    زين رجال السوء للمأمون أن يعتقد القول بأن القُرْآن مخلوق حتى اعتقده واعتنقه وآمن به وكان له وزير يسمى أحمد بن أبي دؤاد وهو أبرز من زين له هذه البدعة، وكان من تلاميذ تلاميذ الجهم، فلما استقر المأمون على ذلك، لم يكتف بأن يعتقد البدعة؛ بل كتب أوامره إِلَى جميع الولاة في الدولة جميعاً أن يرغموا الناس، ويمتحنوهم عَلَى القول بخلق القرآن.
    فمن قال به نجا، ومن لم يقل بذلك فإنه يجلد ويعذب ويضرب، حتى يقول بهذه العقيدة الضالة المبتدعة، ومن هنا عظمت المحنة عَلَى علماء الإسلام، وابتلوا في كل مكان بالحبس والسجن والأذى، واشتد الأمر، وعظم الخطب، ونكل بهم المبتدعة الذين ولاهم ابن أبي دؤاد، وكانوا شديدي الحقد عَلَى هَؤُلاءِ العلماء من أهل السنة الذين هم عَلَى العقيدة الصحيحة.
  2. بلاء أهل السنة في هذه الفتنة

    ومن لم يدن بهذه البدعة من الْمُسْلِمِينَ ناله بلاء عظيم ونكال كبير بسبب هذه الفتنة، ولم يبق من العلماء المشهورين إلا ثلاثة نفر، وكان الإمام أَحْمَد هو ثالثهم وأشهرهم، فأكثر العلماء تهربوا عن الجواب، أو جاملوا، وبعضهم سجن في بعض البقاع أو جلد، لكن لم يكن لهم من قوة التأثيرما كَانَ للإمام أَحْمَد.
    فالإمام أَحْمَد كان في بغداد -العاصمة- وكان أكبر علماء الإسلام في عصره؛ لأن هذا الكلام كَانَ بعد وفاة الإمام الشَّافِعِيّ فقد قيل: إنه أدرك أول الفتنة.
    لكن الامتحان الحقيقي كَانَ في آخر أيام المأمون، بدليل أن المأمون مات قبل أن يصل إليه الإمام أَحْمَد حين استدعاه.

    وكان الإمام أَحْمَد أكبر علماء الإسلام في الحديث، وكانت الأمة مُصغية الآذان لما يقوله الإمام أَحْمَد، فإن وافق الإمام أَحْمَد لم يبق أحد إلا وافق، وإن رفض فلا موافقة، وإن كَانَ في ذلك من الأذى ما فيه، ولهذا لما جيء بالإمام أَحْمَد وسجن جَاءَ إليه بعض النَّاس فقَالَ: يا إمام!
    قد ابتُليتَ وعُذبتَ، وقد جعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لك فسحة في قوله: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ)) [النحل:10] فلماذا تعذب نفسك يا أَحْمَد؟!
  3. الإمام أحمد يسترخص نفسه في سبيل الحق

    لقد ضَرب الإمام أَحْمَد حتى انشقت خاصرته وخرجت أمعاؤه منها، من شدة ضرب السياط كل ذلك من أجل أن يقول: إن القُرْآن مخلوق، وهو يأبى أن يقول بدعتهم، وناظرهم بالحجة والبيان.
    فلما أفحموا وعجزوا لجأوا إِلَى الضرب، وهذه حجة من لا يملك الحجة، وقد قال لهم الإمام أَحْمَد: تريدون أن أوافقكم عَلَى قولكم؟
    قالوا: نعم.
    قَالَ: اخرجوا فانظروا!
    فخرجوا وإذا بالنَّاس أفواجاً وبأيديهم الأقلام، وعندهم المحابر والورق، فقالوا لهم: ماذا تنتظرون قالوا: ننتظر ما يقوله الإمام أَحْمَد فنكتبه.
    فرجعوا إليه فَقَالَ لهم الإمام أَحْمَد: ماذا رأيتم؟
    قالوا: رأينا النَّاس جالسين ينتظرون ما تقول، فيكتبونه.
    قَالَ: والله لأن أموت أهون عليَّ من أن أُضل الناس؛ لأنه يعلم أن الكلمة التي سيقولها ستكتب وتؤخذ عَلَى أنها دين وتنتشر في الآفاق، والنَّاس لا يدرون أن الإمام أَحْمَد مُكَرَهَ؟! وأنه لا يرضى بذلك؟! وكيف يتدارك الأمر فيما بعد؟! هذا شيء غير مضمون.
    ولذلك نفهم من هذا دقة فهم الإمام أَحْمَد، ففي حالة الإكراه يجوز للإنسان أن يقول كلمة الكفر، لكن إذا كَانَ الأمر يقتضي من الإِنسَان أن لا يقول الكفر وأن يقف موقف الحق، فإنه مهما أكره ومهما أوذي فإنه يجب ويتعين عليه أن لا يقولها.
    فالإمام أَحْمَد رأى أن الأمة كلها تريد أن تسمع ما يقول، فلابد حينئذٍ أن يثبت أمام هذه الضلالات ولو أدى الأمر إِلَى قتله، فيقتل ويُقَالَ: قتل؛ لأنه لم يوافقهم عَلَى كلامهم، فيبقى الحق حقاً ولو قتل من قتل في سبيل بقاء هذا الحق هكذا كَانَ رأي الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ -وقد رفعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا الموقف وهذا الصبر.
  4. لله درك يا أحمد

    لقد قال كثير من علماء الإسلام: إن موقف الإمام أَحْمَد في المحنة كموقف أبي بكر الصديق يوم الردة وقد ذكرنا -سابقاً- أن المأمون لم يلتق بالإمام أَحْمَد لأن الإمام أَحْمَد دعا الله تَعَالَى أن لا يريه إياه، وفي الطريق جَاءَ الخبر بأن المأمون قد مات، وقد كَانَ الإمام أَحْمَد من قبل حدوث القول بخلق القُرْآن يتجنب السلاطين، فلا يدخل عليهم ولا يقبل هداياهم.
    بل كَانَ ابنه صالح قاضياً وكان من أعدل القضاة وأعلمهم بالكتاب والسنة، وكان الإمام أَحْمَد لا يأكل من طعامه، قَالَ: لأنه يأخذ من أموال هَؤُلاءِ الظلمة، فهذا حال الإمام أَحْمَد أنه كَانَ لا يدخل عَلَى السلاطين حتى ولا في حال المودة؛ بل إن المتوكل الذي جَاءَ وأحيا السنة وأعادها، وزجر المبتدعة ونكل بهم وعذبهم حتى ماتوا ومنهم ابن أبي دؤاد، لم يكن الإمام أَحْمَد يدخل عليه، ولما أصر المتوكل عَلَى أن يزوره الإمام أَحْمَد ذهب إليه الإمام، واشترط عليه أن لا يحضر مجلسه، فكان يؤتى بالطعام فلا يأكله، وكان يواصل إلا أنه يشرب الماء، فبقي ثمانية أيام حتى كاد أن يهلك جوعاً، كما قال ابنه عبد الله وكان الذي تولى الخلافة من بعد المأمون المعتصم وهو الذي قام بتعذيب الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ.
  5. المعتصم رجل عسكري والمأمون رجل فلسفي

    لم يكن المعتصم مثل المأمون، فلقد كَانَ المأمون رجلاً فلسفياً متبحراً في العلم والجدال والفلسفة التي تعلمها، وكان يحضر في مجلسه العلماء من اليهود والنَّصَارَى والْمُسْلِمِينَ والفلاسفة فيتجادلون جميعاً ويشاركهم جميعاً، ويرى أن هذا من كثرة تمكنه وعبقريته وعقله، أما المعتصم فكان رجلاً عسكرياً، فقد كانت أمه تركية من الأتراك العسكر وتربى تربية عسكرية، ولم يكن يدرك هذه الأمور، فلم يكن يعرف إلا السوط، فلما تولى الخلافة وأراد أن يرفع الفتنة فزُين له الوزراء، وقالوا له: إنك إن فعلت ذلك تكون قد شهدت عَلَى من قبلك بالضلال.
    فلا بد أن تستمر، وإلا يُقَالَ: إنه عجز منك وخور، كيف تترك رجلاً واحداً، ومن معه يعمل كل هذا العمل؟! فهل تعجز الدولة عن هَؤُلاءِ؟!
    فلما زينوا له ذلك آذى العلماء وضربهم وعذبهم، واقتاد الإمام أَحْمَد بالقوة وأحضره إليه، وأخذ يحاول وينصح الإمام أَحْمَد كثيراً، ويقول: يا أَحْمَد! لا أريد عذابك، يا أَحْمَد! والله إني أكره أن أضرك، ويقول له: قل القُرْآن مخلوق، فيأبى الإمام، فيذهب الوقت الطويل في الاسترضاء، فيشتد الغضب بـالمعتصم بعد ذلك فيأمرهم أن يضربوه، ويشتدوا في الضرب، وكان هذا حاله معه أياماً كثيرة.

    فكانت هذه المحنة العظمى للأمة من أجل أن تقر وتوافق بأن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ مخلوق، وأنه ليس وحياً منزلاً من عند الله وأنه لم يتكلم به عَلَى الحقيقة.
  6. المتوكل ونصره للسنة

    عندما تولى المتوكل بعد المعتصم انتصر الإمام أَحْمَد-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- بل انتصر الحق فانتصرت السنة عَلَى البدعة، ولقي المبتدعة من النكال والأذى من الأمة أكثر مما لقوا من المتوكل عندما رجع إِلَى السنة، فإن المعتزلة وأمثالهم قد شهر الله تَعَالَى أمرهم وفضحهم في جميع البلاد وأصبح الْمُسْلِمُونَ -حتى العوام منهم في الأقطار المتنائية- إذا علموا أن فلاناً من المعتزلة يكادون أن يرجموه بالحجارة، ويحتقرونه ويطردونه ويذلونه، ولهذا يجب أن ندرس حقائق التاريخ، وكيف تقاوم البدع؟
    فإن في ذلك عبراً كثيرة جداً، وأعظم عبرة في هذا هي أن الإِنسَان لا يرد البدعة ببدعة، وهذا من منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنهم يردون البدعة بالسنة ويردون الآراء والأهواء والفلسفات يقول الله، وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقوال الصحابة والتابعين وهذا هو منهجنا.
    فلقد حاول القوم أن يتأولوا في الكلام، فتارة يقولون: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول:
    ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر: 62] أليس كذلك يا أَحْمَد؟
    فَيَقُولُ: بلى.
    فيقولون: أليس القُرْآن شيء؟
    فَيَقُولُ: بلى.
    فيقولون: إذاً القُرْآن مخلوق.
    فيرد عليهم الإمام ويقول: ألم يقلِ اللهُ تباركَ وتعالى عن الريح: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) [الأحقاف:25].
    قالوا: بلى.
    قَالَ: أليست الأرض شيء والسماوات شيء؟
    فيقولون: بلى.
    فَيَقُولُ: فهل دمرتها الريح؟
    فيقولون: لا، وهكذا كَانَ يقاوم الحجة بحجة أقوى منها.
    فيقولون -مثلاً-: يقول الله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)) [الأنعام:1] أليست جعل بمعنى خلق؟
    فَيَقُولُ: نعم.
    فيقولون: ألم يقل الله: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون)) [الزخرف:3] أي: خلقناه؟
    وهكذا كانوا يحولون الأدلة والإمام أَحْمَد-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يرد عليهم ردوداً قوية، لكنه لما جَاءَ إِلَى مسألة القول بخلق القرآن.
    قالوا: لم لا توافق؟ هل عندك دليل عقلي؟
    فَيَقُولُ: ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة.
    وهذا هو الذي نطالب به دائماً وأبداً، فكل من يأتينا ببدعة فإننا نطالبه بشيء من الكتاب أو بشيء من السنة، أما الجدليات والاستنباطات العقلية والتأويلات فهذه لا نهاية لها، حتى أنك تجد الذين عبدوا الأصنام والحجارة من دون الله عَزَّ وَجَلَّ ما عبدوها إلا بتأويل وتفلسف، وبظنون يحسبونها حججاً وهكذا لا تجد أحداً يعمل شيئاً إلا ومعه شيء من هذا القبيل، لكن هل هذه حجة حقيقية؟ أم حجة داحضة؟ نعرف ذلك عندما نطالبه بشيء من الكتاب أو من السنة، وهذا هو منهجنا فلا نرد البدعة ببدعة، وإنما نرد البدعة بالسنة ونرد الباطل بالحق هذه هي العبرة الأولى.

    والعبرة الأخرى هي أن الإمام أَحْمَد لم يتنازل عن شيء من الحق -كما هو واضح في الموقف السابق.
    لكن عبد الله بن سعيد بن كلاب اتخذ موقفاً وسطاً، فقَالَ: لا حاجة إِلَى أن نتشدد كما تشدد أَحْمَد، بل نقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام الله النفسي، أي: الذي في نفس الله غير مخلوق، والذي أنزله في القُرْآن مخلوق!
    ولو قيل له من أين جئت بهذا الكلام يا ابن كلاب؟ وهل هذا في الكتاب أو في السنة أو قال به أحد من الصحابة؟
    لقال لك: نريد أن نأخذ موقفاً وسطاً فنحل به المشكلة.
    وعلى هذا أصبح أهل السنة يحاربون بدعتين بدعة المعتزلة، وبدعة ابن كلاب؛ لأنه أراد أن يتوسط، مع أن الأمر واضح لا وسط فيه ولا هوادة ولا تهاون؛ بل هو حق مثل الشمس، وهذه من العبر التي نستفيدها من هذا الموقف.